كنت قد أشرتُ في مناسبة سابقة إلى هذا العنوان العربي لفيلم أميركي اسمه the day the fish came out لكاتبه ومخرجه "ميهايلس كاكويانيس"، وموضوعه أنّ طائرة محمّلة بقنبلة هيدروجينية سقطت في البحر بالقرب من شاطىء حافل بالمنتجعات، وأنّ فريقاً حاول أن ينبّه القوم إلى ضرورة مغادرة المكان لأنّ السمك بدأ يطفو على سطح الماء ميتاً بفِعل الإشعاع، لكنّ الموسيقى العالية الصاخبة أَصَمَّت الآذان، فاستمر الغافلون يرقصون بجنون فوق الهيدروجين.
إستعدتُ هذا العنوان اليوم، واستعرته لمقالي هذا بعد تجوالي في شوارع بيروت يومي الثلثاء والأربعاء الماضيين، حيث ران مشهد رجال الأمن الذين يحيطون بالبرلمان، فيما المتظاهرون متجمّعون خارج الطوق، يطلقون العنان للأغاني الصاخبة، والهتافات الغاضبة، وقد أخذهم الظن أنّ هذا سيدخل إلى أسماع وأفئدة من اجتمعوا تحت القبة، وقد فاتهم أنه لا يوجد تحت القبة سوى حبة، هي بذرة الانتخابات وسوستها التي تُسيِّر الألسنة، وتنفخ الأودجة، وتؤجّج المشاحنات.
والطريف في الأمر أنّ أصحاب القبة يظنون في المقابل أنّ أهل الشارع يستمعون إليهم؛ وكلا الفريقين تَصح فيه الأغنية الشهيرة "يا لطيف يا بو مرعي شو سَمعو تقيل... يا لطيف يا سلمى شو سَمَعها تقيل".
كلٌّ إذاً، يرقص على الهيدروجين، على نغمات مختلفة يجمعها الضجيج "والنوتات" النشاز. ولقد روى لي زميلي الصديق أدولف تيان أنّ الغوستابو كان يستعمل هذه النوتات من أجل تعذيب الموسيقيين المعادين للنازية، وأنا لا أرى تعذيباً للدولة وفكرتها أمضَّ من هذه "النوتات" والنغمات.
يقول أمير الشعراء:
إلامَ الخُلفُ بَينَكُمُ إِلامَ
وَهَذي الضَّجَّةُ الكُبرى عَلامَ؟
ويقول الناس، أما آن لهذا التجاذب السياسي المزمن العقيم أن يُخْرِجَ من مفرداته البنود الخطرة ويجعلها موضوع اتفاق بدلاً من أن تكون حجارة تتقاذفها مجانيقهم؟!
لم نكد نخرج من اصطفاف عمودي بين الثامن من آذار والرابع عشر منه، ونتوسّم من خلال التسوية سياسة سوية، حتى دهمونا بابتكار خلافات مخلَّقة لعلّ أطرفها ما كان بينهم حول قانون الانتخابات، فحق فيهم المثل القائل: حفروا لبعضهم حُفراً فوقعوا كلهم فيها وأوقعوا الناخبين في متاهات رياضية لا يستطيع واحدهم أن يجوزها إلّا إذا أصبح خبيراً في علم "اللوغاريتم".
لقد قيّدوا الدولة بالسلسلة، وصاروا راسفين بها لأّن أحداً لم يجرؤ على المراجعة النقدية الرصينة ليقول إنّ زيادة الرواتب على رغم استحقاقها، ستفترسها الحلقة الجهنمية المفرغة كما علّمنا الاقتصاد، وأنّ الحل الجذري يكون باستعادة نمو تداعى وانهار أمام صراعاتنا التي قمنا بتشبيكها مع المصالح الإقليمية الدولية، فحرمنا دولتنا من فرَص الأمان والتطور والاستقرار.
كذلك، أشير الآن إلى أنّ مسألة اللاجئين السوريين هي ورم خطر أخلَّ بالديموغرافيا اللبنانية. لكنّ علاجه يكون بانتهاج استراتيجية وطنية محل إجماع، ذات أبعاد اقتصادية ودولية وعربية وأمنية وإنسانية للاستفادة من فكرة المناطق المنخفضة التوتر، أو ما أسماه الرئيس تمام سلام في مؤتمر نواكشوط "المناطق التي تنحسر عنها المعارك".
أمّا أن يكون اللجوء ورقة من أوراق الانتخابات، أو منبراً للاتهامات المتبادلة، فهذا يعني أننا نسير حثيثاً لإذكاء الالتهاب في هذا الورم، فنخرج الأمور عن السيطرة ويحيق بنا خطر حقيقي يعرّضنا لمصير دوَل شقيقة، مركزية وتاريخية نشهد تفتتها وانفجارها.
أمّا عن العملة اللبنانية، فلا بد من التذكير، بأنّ توافرها في أيدي المواطنين لا يتمّ عن طريق المطابع، بل المطابع إذا أسرَفت، تحولت إلى كفن العملة. ولهذا فإنّ حمايتها المرحلية بالهندسات المالية، تحتاج إلى استقرار سياسي واقتصادي، لا إلى رقص على الهيدروجين.